تبني التعددية اللغوية في تعليم الطفولة المبكرة

طريق نحو التعلم الشامل

تخيل أنك في روضة أطفال تضج بالحياة في الإمارات العربية المتحدة، محاط بمزيج ديناميكي من الأطفال من خلفيات ثقافية مختلفة. يتحدث بعضهم اللغة العربية أو الإنجليزية، بينما يتنقل آخرون بسلاسة بين اللغة الأردية أو الهندية أو المالايالامية. هذه الفسيفساء النابضة بالحياة من اللغات ليست مجرد متعة بصرية، ولكنها شهادة على القوة الكبيرة للتعدد اللغوي.

يشير مصطلح “التعددية اللغوية” إلى قدرة الفرد على استخدام لغات متعددة بمرونة، وبدرجات متفاوتة من الكفاءة، عبر سياقات مختلفة، آخذاً بعين الاعتبار المخزون اللغوي الفريد له والفهم الثقافي والكفاءة التي تنشأ عنه (Garcia & Otheguy، 2020). يختلف مصطلح التعددية اللغوية عن المفهوم الأكثر شيوعًا لـ “التعدد اللغوي”، حيث يستهدف الأخير المشهد اللغوي المجتمعي الأوسع، مثل وجود لغات متعددة واستخدامها داخل مجتمع معين، دون معالجة الكفاءة اللغوية للأفراد أو استخدامها في هذا المجتمع (Auer، 2022).

 

يشير مصطلح “التعددية اللغوية” إلى قدرة الفرد على استخدام لغات متعددة بمرونة، وبدرجات متفاوتة من الكفاءة، عبر سياقات مختلفة، آخذاً بعين الاعتبار المخزون اللغوي الفريد له والفهم الثقافي والكفاءة التي تنشأ عنه

 

في حين يؤكد مصطلح “التعددية اللغوية” على مخزون اللغة الشاملة للفرد والاستخدام الديناميكي السلس للغة للتواصل بشكل فعال، ينظر مفهوم “التعدد اللغوي” إلى اللغات المختلفة باعتبارها أنظمة منفصلة تتعايش داخل المجتمع وتهتم أكثر بالسياسات والممارسات التي تدير التنوع اللغوي المجتمعي.

لذا تعد التعددية اللغوية مهارة ذات أهمية كبيرة، وخاصة في البلدان التي تضم أعداداً كبيرة من المهاجرين أو المغتربين. برز تبني التعددية اللغوية كجانب أساسي من جوانب التعليم في مرحلة الطفولة المبكرة في سياق العولمة، فعلى سبيل المثال، تعد التعددية اللغوية جزءاً لا يتجزأ من سياسة اللغة للمجلس الأوروبي، وتروج لفكرة مفادها أن تعلم لغات متعددة منذ سن مبكرة يثري التواصل ويؤدي إلى فهم وتقدير أكبر للآخر.

يتمتع الأطفال بقدر كبير من القدرة على التلقي خلال سنوات تكوينهم المبكرة ما يمكنهم من اكتساب اللغات في عالمهم بسهولة. لذا يوفر دمج التعددية اللغوية في الصفوف الدراسية فوائد عديدة، منها تعزيز التواصل بين الثقافات وتقدير التنوع (Cummins، 2014). كما يمكن للمعلمين من خلال تبني التعددية اللغوية تكوين بيئات تعليمية شاملة يشعر فيها كل طفل بالفهم والتقدير، ما يعزز شعور جميع الطلاب بالانتماء بغض النظر عن خلفياتهم اللغوية أو الثقافية. يضع تعلم الأطفال للغات والثقافات المختلفة أساس التسامح والتعاطف والاحترام ويفتح الأبواب أمام آفاق جديدة، في الوقت الذي يصوغون هوياتهم ويطورون وجهات نظرهم حول العالم في رياض الأطفال والمدارس الابتدائية.

كما تعمل التعددية اللغوية على تعزيز التطور المعرفي لدى الأطفال، حيث كشفت الدراسات أن الأفراد متعددي اللغات غالباً ما يظهرون قدرات أفضل على حل المشكلات، وزيادة في قدراتهم الإبداعية، ومرونتهم المعرفية وقدراتهم العقلية المتفوقة، ما يمهد الطريق بدوره للنجاح الأكاديمي في المستقبل والتعلم مدى الحياة (Muszynska، 2015). وبالتالي يمكن للمدارس تزويد الطلاب بتجربة تعليمية شاملة تعدهم للتنقل بين تعقيدات العالم المعولم من خلال دمج التعددية اللغوية في المناهج الدراسية. إضافة إلى ذلك، يمكن للمعلمين من خلال تبني التعددية اللغوية تأسيس بيئة لا يُقبل التنوع اللغوي فيها فحسب، بل يُحتفى به أيضاً.

يقودنا إدراك قيمة البيئة متعددة اللغات إلى خطوات عملية يمكن تطبيقها داخل الصفوف الدراسية. واستناداً إلى رؤى مستمدة من البحوث الأكاديمية، فيما يلي بعض الممارسات الفعّالة* التي يمكنها مساعدة المعلمين على إنشاء بيئة غني لغوياً وثقافياً:

الاحتفاء بالتعدد اللغوي والثقافي: تنظيم فعاليات ثقافية أو عروض تقديمية حيث يمكن للطلاب مشاركة لغاتهم وتقاليدهم الثقافية مع الصف. ما يعزز التقدير الثقافي ويسمح للطلاب بالشعور بالتقدير نحو تراثهم اللغوي، لتشجيع الطلاب على استخدام مخزونهم اللغوي لفهم أنفسهم والتعبير عنها باللغة المستهدفة.

ملصقات تعريفية متعددة اللغات: تحويل الصف الدراسي إلى تجربة لغوية غامرة، عبر تكوين صف دراسي متعدد اللغات من خلال وضع ملصقات تعريفية على الأشياء واستخدام المفردات بلغات مختلفة.

الاحتفاء بلغات الطلاب: الاحتفاء باللغات التي يستخدمها الطلاب في الصف الدراسي. على سبيل المثال، استخدام التحية بلغاتهم الأم وتشجيعهم على معرفة التحية بلغات أخرى، مع توظيف الملصقات التي يصنعها الطلاب لتشمل تحيات متعددة اللغات وتعليقها على باب الصف الدراسي.

العصف الذهني متعدد اللغات: السماح للطلاب الذين يتشاركون نفس اللغة بتوليد الأفكار بلغاتهم الأم أثناء جلسات العصف الذهني ثم تقديمها باللغة المستهدفة، ما سيساهم في تعزيز التعاون والمفردات في كلتا اللغتين.

 

 

رفيق اللغة: إنشاء نظام “رفيق اللغة” ليعمل الطلاب من خلفيات لغوية مختلفة معاً، ما سيتيح للطلاب الفرصة لدعم تعلم بعضهم البعض وممارستهم للغة المستهدفة أثناء التعرف على لغاتهم المتعددة.

الروابط اللغوية: تقديم نماذج للتجارب بلغات مختلفة، من أجل تعليم الطلاب كيفية الارتباط الواضح للغات، عبر المقارنة بين تركيبة الجمل من لغات مختلفة، وتحديد الكلمات المشتركة، وإبراز أوجه التشابه أو الاختلافات في النطق، ودعوةالطلاب للمساهمة.

الوسائط والأغاني: استخدام مقاطع أو مقتطفات من أفلام بلغات مختلفة لإشراك الطلاب واطلاعهم على مختلف اللهجات والفروق الثقافية. يعد التعلم عبر الأغاني التي تقدم بلغات مختلفة طريقة ممتعة أيضاً لممارسة النطق واستخدام الإيقاع والمفردات، حيث تتوفر العديد من أغاني الأطفال بإصدارات متعددة اللغات عبر الإنترنت، كما يمكن إنشاء أغانٍ بسيطة مع الطلاب.

مشاريع صفية متعددة اللغات: تصميم مشاريع يقدم فيها الطلاب معلومات بلغات متعددة، مع عرض مهاراتهم اللغوية، حيث يمكن أن يكون المشروع كتيباً متعدد اللغات أو بودكاست أو مسرحية، كما يمكن دعوة أولياء الأمور لمساعدتهم.

مكتبة صفية متعددة اللغات: تأسيس مكتبة صفية متنوعة تتضمن كتباً ومجلات وموارد أخرى بلغات مختلفة، لتوفر فرصاً للاستكشاف المستقل والتعرض لثقافات ولغات مختلفة.

 

    • *مقتبس من Garcia, 2009 و D’warte & Slaughter, 2024

 

يمكن للمعلمين إنشاء بيئة تعليمية محفزة تحتفي بالتعدد اللغوي تمكن الطلاب من أن يصبحوا مستخدمين واثقين لعدة لغات من خلال دمج هذه الأنشطة المتنوعة. ولتحقيق الاستفادة الكاملة من مزايا التعددية اللغوية في التعليم في مرحلة الطفولة المبكرة، يحتاج المعلمون إلى فهم شامل لمبادئ هذا النهج وممارساته للتنقل عبر النسيج الغني للغات والثقافات في الصفوف الدراسية اليوم. كما يمكن للمؤسسات التعليمية دمج وحدات التعددية اللغوية في برامج تدريب المعلمين لتمكينهم في المستقبل بالمعرفة والمهارات اللازمة للتنقل عبر تشابكات الصفوف الدراسية المتنوعة لغوياً، ما سيمكن المعلمين من النظر إلى التنوع اللغوي في الصف باعتباره إضافة قيّمة تثري التجربة التعليمية لجميع الطلاب وليس تحدياً.

تركز التعددية اللغوية على بناء الجسور وكسر الحواجز وإطلاق العنان لسحر التنوع اللغوي. يوجّه تبني التعددية اللغوية في التعليم في مرحلة الطفولة المبكرة رسالة قوية حول أهمية التنوع والمساواة والشمول، نظراً لأنه اعتراف بالمساهمات اللغوية والثقافية الفريدة التي يأتي بها كل طفل إلى بيئة التعلم، ما يعزز انتماء الأطفال إلى الصف الدراسي والمدرسة. ومن خلال تقدير التنوع اللغوي والاحتفاء به، لا يحتفي المعلمون بالثقافات الغنية داخل الصف الدراسي فحسب، بل يضعون لأساس مجتمع أكثر تسامحاً وتعاطفاً وثراءً ثقافياً أيضاً.

 

 

المصادر

    • Auer, P. (2022). 5 ‘Translanguaging’ or ‘Doing Languages’? Multilingual practices and the
    • notion of ‘Codes’. In Multilingual Perspectives on Translanguaging (pp. 126-153). Multilingual Matters. https://doi.org/10.21832/9781800415690-007
    • Cummins, J. (2014). Mainstreaming plurilingualism: Restructuring heritage language
    • provision in schools. Rethinking Heritage Language Education, 1-19.
    • D’warte, J., & Slaughter, Y. (2024). Examining plurilingual repertoires: A focus on policy,
    • practice, and assessment in the Australian context. In S. Melo-Pfeifer & C. Ollivier (Eds.), Assessment of plurilingual competence and plurilingual learners in educational settings: Educative issues and empirical approaches (pp. 62-75). Routledge. https://doi.org/10.4324/9781003177197-5
    • Garcia, O. (2009). Translanguaging as a bridge for understanding in bilingual education.
    • Educational Researcher, 38(1), 13–24.
    • García, O., & Otheguy, R. (2020). Plurilingualism and translanguaging: commonalities and
    • divergences. International Journal of Bilingual Education and Bilingualism, 23(1), 17–35. https://doi.org/10.1080/13670050.2019.1598932
    • Muszynska, B. (2015). Ways of measuring the effectiveness of bilingual education programs
    • in primary schools in Europe. Retrieved from https://www.semanticscholar.org/paper/Ways-of-measuring-the-effectiveness-of-bilingual-in-Muszyńska/62d8cb4ad0a3c1145c1c147724132d08cc065d61

لدى د. منى السمطي أكثر من عشرين عاماً من الخبرة في التعليم، تشمل تدريس اللغة الإنكليزية كلغة أجنبية (TEEL)، والبحث وتعليم المعلمين.

حصلت د. منى على جائزة ليثوود للأطروحة المتميزة لعام 2021 من جامعة تورنتو، إلى جانب عدد من المنح والجوائز الأخرى. شغلت وظيفة محاضر وأستاذ مساعد في التعليم العالي في مصر والإمارات العربية المتحدة وكندا، في مجالات تدريس اللغة الإنجليزية كلغة أجنبية (TEFL) وتعليم المعلمين على حد سواء. عملت أيضاً كمستشارة أكاديمية، وقدمت الدعم لطلاب الدراسات العليا في جامعة تورنتو أثناء إعداد أطروحاتهم. تحدثت د. منى في أكثر من 30 مؤتمراً بحثياً دولياً.

Leave a Comment