هل يؤثر تعلمك اللغة في بنية دماغك؟
القراءة نموذجاً
أتساءلتَ يومًا كيف تتعلم اللغة والقراءة؟ وهل يغير ذلك بنية دماغك؟ وهل يتوقف دماغك عن النمو في عمر معين؟ دفعتني هذه التساؤلات لكتابة مقال حول أثر تعلم القراءة وكيفية تأثيرها في بنية المتعلمين الدماغية، في ضوء علم الأعصاب المعرفي (Cognitive Neuroscience).
للقراءة دور مهم في التطور العلمي، إذ إنها مفتاح التعلُّم. ربما ترى أن تعلم القراءة في الغرف الصفية عملية واضحة، حيث يجتمع الطلبة مع معلمهم؛ ليتعلموا الحروف والمفردات والنصوص والقواعد اللغوية. وهذا صحيح من ناحية، لكن ما لا يُمكن قياسه هو مقدار التغيّرات التي تحدث في بنية أدمغة الطلبة.
يمثل الدماغ مركز العمليات المعرفية الذهنية، ويعتقد البعض أنه لا يتوقف عن النمو في عمر معين، إلا أن الحقيقة عكس ذلك ، فالدماغ يستمر بالنمو طوال حياة الإنسان. لكن نموه يعتمد على استمرارية التعلم كتعلم لغة جديدة، أو الارتقاء بمستوى اللغة الأم.
يتفاعل الدماغ بعمق مع تعلم القراءة وتطوير مهاراتها، ويؤدي ذلك إلى تغيرات في بنية الدماغ، ليس على مستوى القدرات اللغوية، إنما يتغير حجمه، فيزداد حجم بعض مواضع الدماغ المرتبطة باللغة. وينعكس هذا النمو على تحسين مستوى الفهم اللغوي.
إن تعلم القراءة وإتقانها عملية مركبة، تحث الدماغ على بناء تشابكات عصبية (Synapses) تربط بين خلاياه العصبية. وتستطيع الخلية العصبية إنشاء قرابة 10,000 تشابك عصبي مع خلايا أخرى. وتجعل هذه الخاصية بنية الدماغ متغيرة طالما الإنسان يتعلم. وترتبط هذه الخاصية بمفهوم المرونة (Neuroplasticity). و يتمتع الدماغ بقدرة فائقة على تغيير بنيته وإعادة تشكيلها وظيفيًا وجسديًا؛ استجابةً للتحفيز والتعلم والقراءة.
وتتواصل خلايا الدماغ مع بعضها بعضاً بطريقتين رئيسيتين، الإشارات الكهربائية، ومعظمها في العين والقلب، والموصلات العصبية (Neurotransmitters)، مثل: الأدرينالين ومواد أخرى. تؤثر زيادة الهرمونات أو نقصها في وظائف الجسم والعقل. ويمكن لمواد مثل الكافيين أن تجعل تواصل الخلايا هذا أقل فعالية، في حين أن مسكنات الألم يمكن أن تجعلها أكثر نشاطًا. لذلك، من المهم جدًا للطلبة تناول الأطعمة الصحية والتحدث مع الأطباء؛ للتأكد من أنهم يتناولون الطعام المناسب لصحتهم.
ماذا يحدث للدماغ عندما يتعلم الإنسان لغة جديدة، أو يطور عمليات القراءة بلغته الأم؟
ماذا يحدث للدماغ عندما يتعلم الإنسان لغة جديدة، أو يطور عمليات القراءة بلغته الأم؟ يحفز هذا التعلم تبادل المعلومات بين أجزاء الدماغ المختلفة بجزأيه الأيمن والأيسر. وتمر عملية تبادل المعلومات بالجسم الثفني (corpus callosum) -القناة الرئيسة للتواصل بين نصفي الدماغ- فتزيد المادة البيضاء (White matter) وعدد الألياف العصبية. وتحسن هذه الزيادة مستوى الكفاءة الذهنية، سواء أستخدمها الفرد في اللغة أم في وظائف أخرى.[1]
وقد وُجِدَ[2] أن لدى الأشخاص، الذين يتعلمون أكثر من لغة ويتحدثونها، زيادة في كثافة المادة الرمادية (Gray matter)، وهي جزء يشمل معالجةً للوظائف المعرفية اللغوية في مناطق، مثل الفص الصدغي الأيسر (Left Temporal Lobe)، المسؤول عن تفسير المقروء وتحويله لصور بصرية وصوتية. ولذلك لا بد من استحضار بيانات من مناطق مختلفة من الدماغ، ولتصل بسرعة لا بد من توافر طرق، تنشأ من خلال بناء التشابكات العصبية سابقة الذكر.
كما تؤدي زيادة كثافة المادة الرمادية إلى تحسُّن وظائف قشرة الفَصِ الجبهي(Prefrontal Lob Cortex) ، التي تعدُّ مقر العمليات العقلية العليا (Executive Functions)، مثل الإدراك وإصدار القرارات والتركيز. وهنا يتضح لنا أن تعلم المهارات القرائية يطور قدرة الدماغ على القيام بمهام متعددة في الوقت ذاته (Multitasking)، والتذكر وحل المشكلات، حتى وإن كانت المهمة التي ينشغل بها الدماغ لا علاقة لها باللغة. وفي ضوء فهم أثر القراءة في تغير بنية الدماغ، ينبغي بناء أساليب تعليمية لغوية مؤثرة تستهدف المناطق الدماغية المسؤولة عن القراءة.
وتعدُّ القراءة وسيلة متفردة لتشكيل بنية الدماغ وتطوره. لننظر نظرة أعمق لعمليات القراءة، فعندما تلتقط كتابا لتقرأه، يثير دماغك -تلقائيًا- مجموعة من العمليات الذهنية، فيعالج الكلمات والرموز التي تمر بالعينين، ما يستدعي تفعيل مناطق مختلفة من الدماغ، وأهمها مراكز تموضع اللغة (النصف الأيسر من الدماغ)، وما يتعلق بها من النصف الأيمن المسؤول عن التخيلات وبناء الصور والمشاعر. فكلما قرأت، أصبحت شبكتك العصبية الدماغية أكثر فاعلية من خلال بناء تشابكات عصبية جديدة، ما يسهِّل انتقال المعلومات من الذاكرة طويلة المدى إلى مراكز المعالجة، مثل القشرة الجبهية (Frontal cortex)، المسؤولة عن التخطيط واتخاذ القرارات.
كيف يمكن للمعلمين استخدام هذه المعرفة في فصولهم الدراسية؟
لا بد لنا كمعلمين من بناء الثقة والدافعية للعمل على بناء المرونة القرائية، حيث يتحسن أداء الطالب إذا اعتقد أن المعلم يهتم له، ويؤمن به وبقدراته، والعكس صحيح. وسبب ذلك أن إحساس الطالب بأن بيئة التعلم اللغوي بيئة آمنة وداعمة، يغمره بمشاعر إيجابية تجاه التعلم اللغوي، وتأتي هذه المشاعر الإيجابية من إفراز أدمغتهم لهرمون الأندورفين، الذي يُعطي شعوراً بالسعادة، ويحفز منطقة الفَص الجبهي، ما يجعل التعلم أكثر متعة ونجاحاً، ويثير الدافعية والرغبة في التعلم. وعلى العكس من ذلك، إن أحس الطلبة بعدم تقدير المعلم واهتمامه، وأن بيئة التعلم اللغوي غير آمنة، فإن اللوزة الدماغية تستشعر ذلك، وترسل إشارات عصبية إلى الغدة الكظرية؛ لتفرز هرمون الكورتيزول والأدرينالين، المسؤولين عن التحكم باستجابات الجسم للتوتر، فيزداد ضغط الدم، وضربات القلب، ولا تغدو الرغبة في التعلم ذات أولوية، فتنخفض الدافعية؛ لأن الدماغ ينتقل إلى وضعية الكر أو الفر.
وعليه، فمن المهم أن يوفر المعلمون بيئة إيجابية معززة لتعلم مهارات القراءة، تتيح فرص التعلم المختلفة للطلبة، كالتدريس المباشر، إضافة إلى التعلم من المحاولة والخطأ واستكشاف المحتوى القرائي، حيث إن الشبكات العصبية الدماغية تصبح أكثر كفاءة عندما يحاول الطلبة تجربة خيارات متعددة قبل التوصل للإجابة الصحيحة، أو إيجاد حل لمشكلة مستعصية. كما من المهم اتباع طريقة التعلُّم بالتكرار؛ أي ممارسة المهارة القرائية الجديدة مرات تكفي للتمكُّن منها. وإن ممارسة المهارة وتكرارها أداة فعَّالة لزيادة تعرض الدماغ لها، وتعزيز بناء التشابكات العصبية الدماغية المرتبطة بها، حيث اكتُشف أن التشابكات العصبية متغيرة باستمرار، ومتكيفة، وفقا لاستجابة الدماغ للنشاط اللغوي[1]. لذلك، يزيد أسلوب التكرار والممارسة في تقديم المعلومات والمهارات القرائية للطلبة من احتمالية احتفاظ أدمغتهم بها، بل يمكنهم أيضًا من تنشيط المعلومات أو المهارات التي تعلموها بشكل أسرع وأكثر دقة مستقبلاً.
ولمساعدة طلبتك على تحسين مهاراتهم القرائية المتعلقة بالانتباه والاحتفاظ والتذكر، ألقِ نظرة على مفهوم (تأثير فون ريستورف(، ما هذا التأثير؟ يُعرف تأثير فون ريستورف بـ”تأثير العزلة” أيضًا. حيث يتذكر الدماغ المعلومة المختلفة عن المعلومات المعروضة، أو الحدث المختلف ويسترجعه. وقد اكتُشف أنه عندما يُعطى المشاركون قائمة بكلمات متقاربة ومتجانسة؛ لتذكرها، وتضمنت القائمة كلمة مميزة بشكل لافت، كان احتمال تذكر الكلمة المميزة عالياً.
ولنفهم ذلك، سأسأل: لماذا يحدث ذلك؟ يركز الدماغ ويهتم بشكل ملحوظ بتحديد ما ينبغي تعلمه والاحتفاظ به وتذكره، ودائما يفوز الأمرُ المختلفُ بنصيب الأسد في التذكر، فلو عرضت صورة لأطفال بقمصان خضراءَ وواحد فقط بقميص أحمرَ، فتركيز الدماغ سينصب على الطفل بالقميص الأحمر. وفي تعليم القراءة يمكننا توظيف تأثير ريستورف، حيث يُعلَّم الطلبة استخدام التظليل أثناء القراءة؛ لتحديد المعلومات المهمة، ليسهل استرجاعها لاحقاً. وقد تُصمَّم أوراق أنشطة بأشكالٍ وألوانٍ مختلفة، ويُستخدم الخط المائل، والغامق، وما تحته خط؛ لإبراز المعلومات المهمة. وعليك أنت المعلم التفكُّر دوماً بالفكرة أو المعلومة المركزية، التي تؤثر في الفهم وإبرازها عن بقية المكتوب.
إضافة إلى استثمار المحتوى المرئي في تعلم المهارات القرائية، وخصوصا في سنوات التعلم الأولى، فلقد وُجد أن من أفضل الطرق لضمان تخزين المتعلمين للمعلومات في الذاكرة طويلة المدى، ربطُ المعلومات بصور ذات معنى، فالصور تمكُّن الطلبة من فهم المحتوى وتركيز انتباههم عليه، ما يزيد من احتمال حفظها في الذاكرة طويلة المدى. وينبغي للمعلمين زيادة تركيز طلبتهم من خلال تجزئة الحصة، وإتاحة الفرص لاستكشاف موضوع القراءة بشكل مستقل وتعاوني، بأنشطة تثري تجربتهم اللغوية. فالتعليم المجزأ يزيد قدرة الذاكرة العاملة وفاعليتها.
وختاماً، فإنه يجب الانتباه أثناء تعلم القراءة إلى التفاعل الاجتماعي بين الطلبة والمعلم، إذ تعد التفاعلات الاجتماعية أداةً فاعلة في بناء المهارات اللغوية من حيث ممارستها في سياق حقيقي، وزيادة ثقة الطلبة بأنفسهم. يحفز التمكُّن من اللغة عامة والقراءة خاصة الطلبة على التعبير عما يختلج في أنفسَهم من مشاعرَ وأفكارٍ، ويجعلهم أكثر ثقةً بأنفسهم، فلا يعد تعلم اللغة في الصفوف الدراسية عملية تعلمية تعليمية فقط، إنما هي تجربة ذات أبعاد متعددة تشمل التفاعلات الاجتماعية والشخصية، وعملية تشكيل حياة الطلبة وتطوير بنيتهم الدماغية، ما يعزز قدراتهم على التكيف والنمو المهاري.
المصادر
Tau, G., Peterson, B. Normal Development of Brain Circuits. Neuropsychopharmacol 35, 147–168 (2010). https://doi.org/10.1038/npp.2009.115
Zhang, Jiawei (2019) Basic Neural Units of the Brain: Neurons, Synapses and Action Potential. arXiv: Neurons and Cognition, https://api.semanticscholar.org/CorpusID:174799219
Zhang, Jiawei (2019) Basic Neural Units of the Brain: Neurons, Synapses and Action Potential. arXiv: Neurons and Cognition, https://api.semanticscholar.org/CorpusID:174799219
Negin, Ehsan; Farahani, Saeid; Jalaie, Shohreh; Sadat, Samaneh; Pourjavid, Alireza; Eatemadi, Maryam; Kazemiha, Milad, & Barzegar, Mojtaba, Effect of bilingualism on volume of corpus callosum, RESEARCH ARTICLE, Aud Vest Res (2016);25(2):127-134.
[1] Tu L, Zhou F, Omata K, Li W, Huang R, Gao W, Zhu Z, Li Y, Liu C, Mao M, Zhang S and Hanakawa T (2022) Increased Gray Matter Volume Induced by Chinese Language Acquisition in Adult Alphabetic Language Speakers. Front. Psychol. 13:824219. doi:10.3389/fpsyg.2022.824219
Jensen, Eric. Teaching with the Brain in Mind. The second Edition has been revised and updated. Alexandria, VA, USA: Association for Supervision & Curriculum Development, 2005. Print.
إبراهيم العموش
أستاذ مساعد، قسم تعليم المعلمين
تجاوزت خبرة د. إبراهيم العموش العشرين عاماً في مجال التعليم. قبل انضمامه إلى الأكاديمية، عمل كأخصائي تدريب تربوي في مؤسسة الإمارات للتعليم المدرسي، ومحاضر وعضو هيئة تدريس مساعد في مؤسسات مختلفة في الإمارات العربية المتحدة والأردن وسلطنة عمان والمملكة العربية السعودية، في كلية سكاي لاين الجامعية بالشارقة، وأكاديمية الملكة رانيا للمعلمين، وجامعة آل البيت، وجامعة الملك سعود، وغيرها. وفي جميع الوظائف التي شغلها، قدم د. إبراهيم خبرته في استراتيجيات التعلم والتقييم وعلم الأعصاب المعرفي للمعلمين.